الانتصار الكبير في الزمن الصعب (11)
عوامل النصر العربي
إن النصر الكبير الذي حققه الله للعرب في مواجهة المخطط الغربي الهدّام ، كان انتصاراً كبيراً ، وتوفيقاً من الله عظيماً ؛ لأن الله عزوجل صدَّ بهذا النصر ذلك المخطط الخطير الذي استهدف كل مقومات الدولة والمجتمع العربي. فقد كان ذلك المخطط وما زال يهدف إلى تفتيت اللحمة الوطنية لكل المجتمعات المستهدفة ، وتغيير هويتها ، وإثارة النعرات العرقية والطائفية بين أبنائها ، وإنشاء الأحزاب المتناحرة والمتناقضة في أهدافها ورؤاها ومعتقداتها!!.. وإذا تحقق هذا المخطط الخبيث في مجتمع أو دولة ، فلا يمكن أن تبقى دولة قائمة ذات سيادة ، ولا يمكن أن يبقى مجتمعها متجانساً ، أو متصالحاً ومسالماً لبعضه بعضاً.. ولن يبقى للأمن والاستقرار والرخاء ، والنهضة والنمو والتطور إلى ذلك المجتمع سبيلاً.
لقد كان المخطط على الأمة العربية خطيراً وكبيراً ومخيفاً ، وكانت الوسائل والإمكانيات المسخرة لتحقيقه قوية ومؤثرة ، وكانت أيضاً كثيرة ومتجددة ومتغيرة.
وقد كان السيل الجارف في هذا المخطط هو ما عُرف بثورات الربيع العربي المدعوم غربياً بشكل واضح ومكشوف – وقد سبق بيان ذلك – ، ورغم اعتقاد الغرب بأن العرب في وضع لا يمكنِّهم من مقاومة ذلك المخطط أو التصدي له ، لا سيما أن قيادات أغلب الدول أصبحت في وضع لا تحسد عليه بعد سقوط بعض القادة ، وتغيّر بعض الأنظمة ، وهيجان الشعوب في غالب الدول العربية! ، وتأثر جميع الشعوب بالحملات الإعلامية الموجِّهَةِ للأحداث ، والتي تصور ما يحصل بأنه ثورات سيخلدها التاريخ! ، وأنها ستقضي على الظلم والاستبداد! ، والاستئثار بالحكم والسلطة والمال!.. وغير ذلك مما ضخه الإعلام الموجّه للشعوب الثائرة!.
وفوق هذا كله كانت الضغوط الغربية كبيرة جداً إعلامياً ، وسياسياً واقتصادياً !.. بل والتهديد بالعقوبات المتنوعة على الحكومات والأنظمة العربية! بما في ذلك التدخل العسكري لضرب القوات المدافعة عن النظام!!.
لقد بلغ الخطر مبلغاً لا يتصوره كثير من الناس! ، وأصبحت الدول وقياداتها أما خيار: أن تكون أو
لا تكون! ، وأن تبقى أو تزول!.. لقد انكشف الوجه القبيح للغرب ! ، واتضحت رُءَاه واستراتيجيته التي يرسمها للعالم العربي دون مراعاة للعهود والمواثيق الدولية ، أو احترام للسيادة الوطنية! ، أو التزام بالاتفاقيات المشتركة ، أو اعتبار للمعاهدات المبرمة بينه وبين الدول التي أصبحت مهددة في أمنها واستقرارها ووجودها!.
ورغم أن الموقف كان أخطر بكثير مما يمكن أن يسطره أي كاتب أو محلل للأحداث ! ؛ إلا أن الله جلّت قدرته رحم الأمة من شر الاقتتال المجتمعي وآثاره المدمرة خصوصاً دول الخليج العربي بقيادة المملكة التي وقفت المواقف الحاسمة في الدفاع عن المنظومة الخليجية خصوصاً ، وبقية الدول العربية بشكل عام ، كما نصر الله القادة المخلصين وأيدهم بالشجاعة الواضحة ، والتوفيق في اتخاذ القرارات ، والمبادرة في معالجة المعضلات!.
ولا شك أن هذا النصر الكبير له أسباب أوجدتهُ ، وعوامل قوتهُ ، حتى أصبح اليوم مرفوع الراية ، عالية الهامة ، معترَفاً به في الدوائر الغربية ! ، والمنصات العالمية! ، ولعلي هنا أورد بعض ما أراه من تلك العوامل كمسلم عربي أعيش آلام الأمة وآمالها ، فمن تلك العوامل من وجهة نظري ما يلي :
العامل الأول: الحفظ الإلهي ، والتدبير الرباني
الغرب يملك من القوة والقدرة في تفكيك الدول ، وإثارة الاضطرابات فيها ، والتأثير على توجهات الناس فوق ما نتصور ! ، ولديه وسائل ضغط كثيرة ، إعلامياً وسياسياً واقتصادياً ، بل حتى منظمات حقوق الإنسان العالمية هي خاضعة للغرب وتخدم توجهاته! ، وبالتالي فإن التصدي لحملة يقودها الغرب بسياساته ، وقياداته ، ويديرها في دوائره الموجهة ، ومنظماته المنتشرة في العالم.. إن التصدي لمثل هذه الحملة أو الحملات ليس أمراً سهلاً ، ولا هي معركة محسومة النتائج ، أو معروفة النتيجة لمن يخوض مواجهة ضدها! ، بل ولا متوقعة! ، لا سيما وأن القيادات العربية فوجئت بتفجر الثورات ، وتداعي الأحداث ، وتلاحقها من قطر إلى آخر!..
ولذلك فإن من التواضع لله جلّت قدرته الاعتراف بأن أول عامل حاسم في مواجهة المخطط الغربي
على العالم العربي هو الحفظ الإلهي لبيضة الإسلام ، والتدبير الرباني للأحداث ؛ رحمة من الله عز وجل بالأمة ، وغيرة على محارمها ومقدساتها وعبَّادها ، فردّ شر الأعداء سبحانه وأوهن كيدهم ، كما قال تعالى: ( ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين ) ، وقال سبحانه: ( ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله) ، وقال تعالى: ( ومكروا مكراً ومكرنا مكراً وهم لا يشعرون ) ، وقال تعالى: ( وقد مكروا مكرهم وعند الله مكرهم وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال ) ، فقد بيَّن الله عز وجل في آيات كثيرة أن سنته وحكمته اقتضت أنه لا ينصر الماكر الخائن الذي يعادي الخير وأهله!.
كما بيَّن سبحانه وتعالى أنه يدافع عن الذين آمنوا ، وأنه ينصر المؤمنين الموحدين ، ويمكن لهم في الأرض ، ويمكِّن لهم دينهم ، ويحفظ لهم معتقدهم ، إذا أخلصوا له في الدين ، وأطاعوا أوامره ونواهيه ، فقال سبحانه وتعالى: ( إن الله يدافع عن الذين آمنوا ، إن الله لا يحب كل خوَّان كفور ).
وقال تعالى: ( وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم ، وليمكنَّنَّ لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، وليبدلنَّهم من بعد خوفهم أمناً ، يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون ).
وقال تعالى: ( إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ).
وقال سبحانه وتعالى: ( أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) .
وقال سبحانه: ( … ولولا دفع الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً ولينصر الله من ينصره إن الله لقوي عزيز. الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) .
فتدبير الأمور بيد الله سبحانه وتعالى ، وعواقبها له دون سواه ، فلا يعلمها إلا هو سبحانه.. وله في كل الحوادث والأحداث حكمة بالغة ، ومنّة على خلقه سابقة ولاحقة ، وشاملة لكل الخلق .
العامل الثاني: شجاعة القادة وحنكتهم السياسية
إن شجاعة القائد وحكمته ودهاءه من العوامل المهمة في تحقيق النصر ، وحل المعضلات بعد توفيق الله وعونه وتيسيره ، ولقد شاهد العالم كله مواقف الملك عبدالله بن عبدالعزيز الشجاعة والقوية في مواجهة المخطط الغربي ، والتخادم الصليبي والصفوي سواءً في ثورة مصر الشقيقة ، أو البحرين الشقيق ، أو غيرهما.
كما كانت مواقف سمو الأمير سعود الفيصل وتصريحاته مما يسجل بمداد من ذهب! ، وكانت تصريحاته وتحركاته تتسم بالصدق والصراحة والوضوح ، وقوة التأثير.
ثم جاءت مواقف الملك سلمان وسمو ولي عهده الأمين محمد بن سلمان لتكمل مسيرة التصدي لهذا المخطط الغربي الهدّام بما يناسب المرحلة ويؤثر فيها التأثير المأمول.
وقد شاهد العالم كله قوة وصرامة وصلابة مواقف المملكة أمام التلاعب الغربي ، وغطرسة الأحزاب اليسارية فيه! ، التي تسعى لفرض النمط الغربي وتشوهاته على العالم العربي!.
ولا شك أن القادة العرب أصبحوا أكثر تعاوناً وتفاهماً وتواصلاً لما يحقق المصالح العليا للأمة ، ويدرأ عنها مخاطر الفرقة والاختلاف ، كما أصبحوا أكثر إدراكاً لتلاعب الغرب وغطرسته وادعاءاته الفارغة من مضامين الصدق والالتزام والوفاء .
كما أن دهاء وحنكة بعض القادة العرب تغلبت على مخادعات الغرب ونفاقه! ، وفي مقدمة هؤلاء القادة سمو الأمير محمد بن سلمان وفقه الله ، فقد أبهر العالم ، وصدم الغرب ، ورفع رأس العرب عالياً.
العامل الثالث: ثبات أهل المنهج السلفي على مبدأ السمع والطاعة لولاة الأمور
الثورات التي اجتاحت العالم العربي ودعمها الغرب بقوة ، كان هدفها الأول : إسقاط الأنظمة ، واستهداف الحكومات التي أنظمتها ( ملكية ) ، أو عائلية ، كما هو الحال في دول الخليج ، والأردن ، والمغرب..
إذن ، كان الهدف الأول هو الحاكم! ، سواءً كان ملكاً ، أو رئيساً ، سلطاناً ، أو شيخاً ، أو أميراً!!.
فالمستهدف هو رأس النظام كائناً من كان! ؛ لأن الغرب يعلم يقيناً أن استهداف رأس الدولة يعني الخراب والدمار! ، واختلال الأمن ، واضطراب الأحوال! ، وتفكك مقومات الدولة ودعائمها!.
والنتائج المترتبة على هذا الفعل لا يعلم مدى خطورتها وآثارها إلا الله عز وجل.
ورغم تأثر الكثير من الجماهير العربية بسبب التخطيط المسبق للأحداث ! ، وبسبب ما رافق الاحتجاجات من تغطية إعلامية داعمة للتمرد والعصيان والخروج على الحكام! ؛ إلا أن أصحاب المنهج السلفي الأصيل القائم على تعظيم نصوص الكتاب والسنة ، وأقوال علماء الأمة ، واتباع منهج السلف الصالح في مسألة : السمع والطاعة لولاة الأمور ، وعدم جواز الخروج عليهم ، أو شقّ عصا الطاعة لهم ، كان لهذا المنهج الإسلامي الأصيل وأصحابه الثابتين عليه بصمة واضحة ، وأثراً بالغاً ، وقوة تضاءلت أمامها كل محاولات التضليل والتشويه الإعلامي ، وتحطمت على صخرتها كل الحملات المدعومة غربية وإقليمياً.
وكان أكبر نجاح لهذا المنهج وأصحابه في الدول التي لا يوجد بها أحزاب ذات توجهات مختلفة ، فالأحزاب ذات الانتماءات المختلفة هي وبال على الأوطان ! ، تساهم في خلق المشكلات وتعقيدها أكثر بكثير من مساهمتها في حل الإشكالات وجمع الكلمة ؛ لأن الأحزاب في الغالب تكون على مبدأ ( كل حزب بما لديهم فرحون ) .. وللحديث بقية.
السبت الموافق 30 شوال 1444ه.