جري في الليالي الأخيرة من العشر الأواخر من رمضان أَنْ عزمت السلطات الصهيونية علي الاستيلاء على حي الشيخ جراح وإعطائه لمستوطنين يهود ، فهب المقادسة دفاعاً عن الحي ودفاعاً عن الأقصى ، وكانت هبةً مباركةً عظيمة استطاعت أن تستقطب أبناء الضفة ليتقاطروا إلى المسجد الأقصى والأحياء المحيطة به رجالا ونساءً وأطفالاً ،وأدى ذلك إلى إحراج الصهاينة أمام العالم فأدانت صنيعهم عدد من الدول الأوروبية التي عُهد عنها الاستكانة للدعاية الصهيونية ، والولايات المتحدة التي يُعتَبر الكيان الصهيوني ابنتها المدللة ، كما خشي الصهاينة من سريان روح المقاومة إلى المدن الأخرى وإلى من يُعْرَفُون بعرب الثمانية وأربعين ، إذ لو تَمَّ ذلك سيكون الكيان الصهيوني في ورطة شديدة ، قد يضطر معها لاستخدام أقسى أنواع العنف كما حدث منه في الانتفاضتين الأولى والثانية وبالأخص أحداثاً مثل حصار كنيسة المهد ،واستباحة مدينة جِنين والقيام بمجزرة بشعة فيها ، سنة ١٤٢٢ ضمن حملة اجتياح الصهاينة للضفة الغربية، وهذا ما سيُكَلِّفُه الكثير من باقي سمعته الدولية التي بذل في محاولة استعادتها بعد أحداث اجتياح الضفة الشيء الكثير ، وسيكون الأمر أشد خطورة على الصهاينة مما كان عليه ذلك التاريخ حيث إن المعنوية الفلسطينية باتت بعد كل ما عانته، وبعد فشل كل محاولات السلام أكثر توثبا للجهاد وللتضحية من ذي قبل ؛ فاستِثارة الفلسطينيين بقضية الشيخ جراح كانت من وجهة كثير من الساسة والصحفيين الصهاينة خطأً كبيراً جداً .
ولم يكن الإنقاذ من هذه الورطة ليكون إلا بحادثة تشغل فلسطين كلها عمَّا حدث في القدس والشيخ جراح .
وظن الصهاينة أن الفرصة جاءت إلى ما تحت أقدامهم حين قامت حماس بإطلاق صواريخها على عسقلان ، هنالك ظنت صهيون أن الفرصة متاحة لتكرار ما حدث سنة ١٤٣٤-٢٠١٤ و١٤٢٦-٢٠٠٦ بقصف غزة عدة ليال ، وهذا كما توهمت لن يُكلفها كثيراً مهما كانت قُدُرَات حماس ، وسوف تستعيد تعاطف المجتمع الدولي باعتبارها قامت بما طُلِب منها وانسحبت من محيط الأقصى وأجَّلَت عملية الاستيطان في حي جراح ، لكن الاعتداء[وفق زعمهم] جاء من حماس ، وسيقومون كالعادة بإظهار ما يؤكد أنهم لا يستهدفون المدنيين ، وأن المدنيين هم الذين يأبون الاستجابة للتحذيرات ولا يبتعدون عن المنشآت والمقرات العسكرية التي يستهدفونها .
وسوف يُحقق ذلك ابتعاداً بالمشكلة عن منطقة القدس والضفة ، وهذا أحد المكاسب .
ومن المكاسب بزعمهم أيضاً إدخال الرعب في نفوس الفلسطينيين بهذا الكم الهائل من أطنان القذائف التي تُلْقى على غزة ، وقد يتبعه اكتساح بري لا أظن أنه سيحدث إلا بعد أن يضمن الصهاينة تدمير الآلة العسكرية للغزاويين جميعاً وتغلغل الرعب إلى قلوبهم ، وهذا مطمح بعيد المنال إذ إن اليقين باليوم الآخر وأن ما عند الله خير وأبقى يورث الفلسطينيين مصابرة وتثبيتاً يصعب على اليهود تقديرهما أو توقع ثمراتهما المرة عليهم .
كما يَتَوَقَّع الصهاينة أن تنهال عليهم بعد العملية العديد من المساعدات بضغط من اللوبيات اليهودية في العالم ، وكنتيجة لمفاوضات وقف إطلاق النار ، منها ما سيكون لإصلاح وإعادة تأهيل القبة الحديدية ، وتعويضات من شركات تأمين لِما لحق البنية التحتية من أضرار ، إلى غير ذلك ، وقد يرى الجيش الصهيوني أنه مستفيد بإدامة إشعار من يسمونه المواطن الإسرائيلي بالكراهية للعرب وضرورة البقاء متأهباً ، إذ ليس صحيحاً أن الصهاينة يريدون الوصول إلى مجتمع كامل المدنية ، بل يريدون إبقاء مجتمعهم عسكرياً يستحضر العقيدة العسكرية للجيش الصهيوني ، ولهذا تجدهم مع بداية كل تصعيد يطلبون قوات الاحتياط المُشَكَّلَة أساساً من خريجي دورات التجنيد الإجباري من المدنيين ،مع أن الجيش الأساس لم يقدم سوى القليل من طاقته البشرية .
لكن السؤال : هل تجهل حماس ذلك كُلَّه ؟
الجواب : إنَّ قرار حماس العسكري ليس بيدها وحدها، والأمر كذلك بالنسبة لحركة الجهاد ؛ وإنما تشاركها فيه إيران ؛ والإيرانيون لا ينظرون لمصلحة المواطن الفلسطيني بقدر ما ينظرون لمصلحتهم التي سأتحدث عنها بعد قليل وتحدثتُ عنها بالفعل منذ عام ١٤٢٦ في عدة مناسبات أهمها مقال بعنوان “عقبة أمام المد الشيعي ” تكلمتُ فيه عن أن إيران تريد أن تتسلم القضية الفلسطينية عبر صناعة مقاومة مزيفة متمثلة في حزب حسن نصر الله ، هكذا قلتُ حينها ،أما اليوم فتضع إيران ممثلاً لمشروعها من أهل السنة أنفسهم ، وهي حماس والجهاد.
إن الاستراتيجية الإيرانية مع استراتيجية إدارة الصراع في الشرق الأوسط لدى الولايات المتحدة الأمريكية ،لاسيما الحزب الديمقراطي ،وكذلك الدوائر الأوروبية المناصرة لكيان إسرائيل ، كُلُّها تتفق على ضرورة إخراج أهل السنة من قيادة الصراع الإسلامي النصراني بشكل عام ، والصراع العربي الصهيوني في فلسطين بشكل خاص ، وتسليمه لدولة شيعية ليست سوى إيران ، تمهيداً للقضاء على هذا الصراع نهائياً ، وقد شرح جزءًا من ذلك الباحث النصراني الماروني الكاثوليكي نبيل خليفة في كتابه “استهداف أهل السنة” فالدول الشيعية تاريخياً والتي قامت في منطقة الشرق الأوسط لم يحصل بينهم وبين الغرب المسيحي أي صراع ، لاسيما في عهد الاحتكاكين الكبيرين ، أعني عصرَ الحروب الصليبية حيث الدولة العُبَيدية ، وعصرَ الاستعمار الحديث حيث الدولة الصفوية ثم القاجارية ثم البهلوية ؛ وبالأخص من منطلقات دينية ، لأنه قد حصل تضاد قليل بين الشيعة والغرب من منطلقات مصلحية سياسية كما حصل في الدولة الحمدانية قديماً ،وكما في ثورة العشرين العراقية في العصر الحاضر ؛ ثم إن الأدبيات الشيعية ليس فيها جهاد سوى مع الإمام المعصوم المختبئ في السرداب ، أضف لذلك أن القدس والمسجد الأقصى ليسا مقدَّسين في التراث الشيعي كما هو مسطور في أُمَّهات كُتُبهم ، وقد جمع أقوالهم في ذلك الباحث الفلسطيني : طارق أحمد حجازي في كتابه ” الشيعة والمسجد الأقصى” .
لذا جاء تسليم ملف الصراع العربي الصهيوني لدولة أعجمية شيعية كاستراتيجية بعيدة المدى لإدارة الصراع مُتَّفَقَاً عليه بين إيران والكيان الصهيوني والغرب ، وما حماس والجهاد إلا أداتان في خدمة هذه الاستراتيجية ، فإنهما تقومان بإبراز إيران على أنها الداعم الوحيد للقضية الفلسطينية ، ويُساعدهم في ذلك الناطقون الرسميون الصهاينة الذين يعملون بدورهم على تصوير السعودية ومصر ودول الخليج كأصدقاء لهم وتصوير إيران كعدو ، وكذلك الإعلام الاجتماعي الذي تديره حماس والجهاد والذي تديره الموساد ، حيث تنتشر التسجيلات على ألسنة فلسطينيين من خطباء مساجد وشباب وشابات تقوم بلعن العرب واتهامهم ببيع القضية الفلسطينية والتآمر عليها ، والعمل على محو التاريخ العربي السني في دعم الشعب الفلسطيني ،كل ذلك لرسم مكانة لإيران الشيعية في قلوب الفلسطينيين وفي قلوب المسلمين عموماً ، وتصديق كونها هي المُخْلِص الأوحد والمُخَلِّص لفلسطين والقدس .
حماس لا تضع في حسابها هذا الهدف الذي تُسْتَخْدَم فيه، وإنما تضع في حسابها أن تدخل معركة مع الصهاينة وحسب ولو كانت معركة تعلم أنها خاسرة ولن تُوصل إلى نتائح بحجم الخسائر التي تُبْذل فيها ،وربما لم يخطر ببالها أنها ربما تُسهم بهذه المعركة في الإجهاز على قضية الشيخ جراح والمسجد الأقصى ،وإشغال الناس بغزة ، وقد كانت الانتفاضة في الأقصى والشيخ جراح بدأتا شعبيتين تلقائيتين ليس لفصيل سياسي دور فيهما ، ودخول حماس في تلك اللحظة وبذلك الشكل سيجعل إيران التي تُبرَز على أنها الداعم الأوحد للمقاومة على أنها محور كل شيء في النضال الفلسطيني ، ولو على حساب أهل غزة والبنية التحتية ، بل وعلى حساب عدد من قياديي حماس وجنودها رحمهم الله وتقبلهم في الشهداء.
وتعتقد حماس أنها بهذه المعركة ستقضي بشكل نهائي على كل النقد الذي وُجِّه لها في ثنائها المطلق على إيران ونعيها لقاسم سليماني الذي قَتَل وشَرَّد من الشعوب العراقية والسورية واللبنانية واليمنية ما هو أربعة أضعاف الفلسطينيين ، وسوف تقوم هي والإعلام الصهيوني الناطق بالعربية بالإيحاء بانتصارها ، كما حصل في عام ١٤٣٤ حيث صُوِّرَت المفاوضات على أن حماس استطاعت إملاء شروطها ، مع أنها في الحقيقة لم تُمْل شيئاً سوى توسيع نطاق صيد الأسماك مؤقتاً ثم عاد الأمر كما كان قبل ، ولم يسمح للصيادين بتجاوز حدودهم .
والأقرب للفهم بناء على هذا التحليل أن كل المساعدات التي تصل إلى حماس تصلها تحت عين وسمع الصهاينة .
ومشهد آخر تَكْمُل به الصورة ، وهو مشهد العديد من الكتاب والمغردين العرب لاسيما من الخليج ومصر من التوجهات الليبرالية وبعض الإسلاميين أيضاً ، والذين وصلت بهم عداوتهم لحماس وردة فعلهم تجاه تجاوزات بعض الفلسطينيين في وسائل التواصل إلى الدعوة إلى التخلي عن القدس وفلسطين تحت شعارات مِن مثل فلسطين ليست قضيتي ، أو الحديث عن عدم مركزية القدس في التراث الديني ، ومنهم من تجاوز ذلك إلى حديثه عن حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ، وكأنه ناطق باسمها أو موظفاً في وزارة إعلامها .
هذه الأصوات والأقلام للأسف نراها تتكاثر ، ولا يبعد أن بعضها مدعوم بشكل مباشر أو غير مباشر من الصهاينة ومن الإيرانيين ، وهم لا يصنعون شيئاً سوى دعم الاستراتيجية الإيرانية الغربية الصهيونية التي تطمح لتنحية أهل السنة من الصراع العربي الصهيوني.
لذا أرى من الخيانة أن نستخدم أخطاء حماس حجة لنا في دعم اليهود وعدم
إدانة ما يفعلونه في غزة ، فإن حماس وإن كنتُ أرى خطأها كبيراً في تسليم رقبتها للمصالح الإيرانية ، وتكرار تجربة حزب حسن نصر الله في المغامرة بشعبه من أجل تجميل سمعة إيران ،إلا أن ذلك لا ينفي كون الصهاينة محتلين غاصبين مجرمين.
ولعل من المناسب في هذا الوقت دعوة حماس للرجوع إلى محيطها العربي السني في مواجهة الصهيونية ، وتقديم ما يكفل لها ذلك من الوعود وأخذ ما يتطلبه الأمر منها من الضمانات ، فإن إيران التي تلعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لن تقف حقيقةً مع أرض افتتحها عمر بن الخطاب ولا مع شعب يؤمن بأنه ثاني الخلفاء الراشدين والعشرة المبشرين بالجنة الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون .
د محمد السعيدي